الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (283- 285): {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}وقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ...} الآية: لما ذكر اللَّه تعالى الندْبَ إِلى الإِشهاد، والكتْبِ؛ لمصلحة حفظ الأموال والأديان عقَّب ذلك بذكْر حال الأعذار المانعة من الكتب، وجعل بدلها الرهْنَ، ونصَّ على السفر؛ إِذ هو الغالب من الأعذار، ويدخل في ذلك بالمعنى كلُّ عذر.قال * ع *: رَهَنَ الشَّيْءَ؛ في كلام العرب معناه: دَامَ، واستمر، قيل: ولما كان الرهنُ بمعنى الثبوتِ، والدوامِ، فمِنْ ثَمَّ بطَل الرهْنُ؛ عند الفقهاء: إِذا خرج مِنْ يد المرتَهِن إِلى يد الراهِنِ؛ لأنه فَارَقَ ما جُعِلَ له.وقوله تعالى: {مَّقْبُوضَةٌ}: هي بينونةُ المرتَهَنِ بالرَّهْن.وأجمع الناس على صحَّة قَبْض المرتَهَن؛ وكذلك على قبض وكيله؛ فيما علمتُ.واختلفوا في قَبْض عدلٍ يوضَعُ الرهْنُ على يدَيْه.فقال مالك، وجميعُ أصحابه، وجمهور العلماء: قَبْض العَدْل قبضٌ.وقال الحَكَم بن عُتَيْبَةَ، وغيره: ليس بقَبْض.وقولُ الجمهورِ أصحُّ؛ من جهة المعنى في الرهن.وقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا}: شرطٌ ربَطَ به وصيَّةَ الذي علَيْه الحقُّ بالأداء.قال ابن العربيِّ في أحكامه: قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا}: معناه: إن أسقط الكَتْبَ، والإِشهادَ، والرَّهْنَ، وعوَّل على أمانة المعامَلِ، فليؤدِّ الأمانةَ، وليتَّقِ اللَّه ربَّه؛ وهذا يبيِّن أنَّ الإِشهاد ليس بواجبٍ؛ إِذ لو كان واجباً، لما جاز إِسقاطه، ثم قال: وجملة الأمر أنَّ الإِشهاد حزْم، والاِئتمانَ ثقةٌ باللَّه تعالى من الدائنِ، ومروءةٌ من المِدْيَان، ثم ذكر الحديثَ الصحيحَ في قصَّة الرَّجُل من بني إِسرائيل الذي استسْلَفَ ألْفَ دينارٍ، وكيف تَعَامَلاَ على الائتمان، ثم قال ابنُ العربيِّ: وقد رُوِيَ عن أبي سعيد الخدريِّ؛ أنه قرأ هذه الآية، فقال: هذا نسخ لكلِّ ما تقدَّم، يعني: من الأمر بالكَتْب، والإِشهاد، والرهن. اهـ.وقوله: {فَلْيُؤَدِّ}: أمر بمعنى الوجوبِ، وقوله: {أمانته}: مصْدَرٌ سُمِّيَ به الشيْء الذي في الذمَّة.وقوله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة...} الآية: نهي فيه تهديدٌ ووعيدٌ، وخص تعالى ذكْر القَلْب؛ إذ الكَتْم من أفعاله، وإِذ هو البُضْعَةُ التي بصلاحها يصْلُحُ الجَسَدُ كُلُّه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم، وفي قوله تعالى: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} توعُّدٌ، وإِنْ كَانَ لفظُها يعمُّ الوعيدَ والوَعْدَ.وروى البَزَّارُ في مسنده، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: «مَنْ مشى إلى غَرِيمِهِ بِحَقِّهِ، صَلَّتْ عَلَيْهِ دَوَابُّ الأَرْضِ، وَنُونُ المَاءِ، ونَبَتَتْ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ شَجَرَةٌ، تُغْرَسُ فِي الجَنَّةِ، وَذَنْبُهُ يُغْفَرُ» اه من الكوكب الدري.قوله تعالى: {للَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض...} الآية: المعنى: جميعُ ما في السمواتِ، وما في الأرض مِلْكٌ له سُبْحَانَهُ.وقوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ...} الآية: قوله: {مَا فِي أَنفُسِكُمْ} يقتضي قوَّةُ اللفظ أنَّه ما تقرَّر في النفْسِ، واستصحبت الفكْرةَ فيه، وأما الخواطر التي لا يُمْكِنُ دفْعُها، فليسَتْ في النفْسِ، إِلا على تجوُّز.واختلف في معنى هذه الآية.فقال عِكْرِمَةُ وغيره: هي في معنى الشهادةِ التي نُهِيَ عن كتمها، فلفظ الآية؛ على هذا التأويل: العمومُ، ومعناه الخصوصُ؛ وكذا نقل الثعلبيُّ.وقال ابن عبَّاس: وأبو هريرة، وجماعةٌ من الصَّحابة والتابعين: إِن هذه الآية، لَمَّا نزلَتْ، شَقَّ ذلك على الصَّحابة، وقالوا: هَلَكْنَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ حُوسِبْنَا بِخَوَاطِرِ نُفُوسِنَا، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لكِنَّهُ قَالَ لَهُمْ: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا، كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا فَقَالُوهَا: فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]؛ ونَسَخ بِهَذِهِ تِلْكَ» هذا معنى الحديثِ الصحيحِ، وله طرقٌ من جهاتٍ، واختلفتْ عباراته، وتعاضَدَتْ عبارةُ هؤلاء القائلين بلفظة النَّسْخِ في هذه النازلةِ.وقال ابن عبَّاس: لما شقَّ ذلك علَيْهم، فأنزل اللَّه تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا...} الآية، فنسختِ الوسوسةُ، وثَبَتَ القوْلُ، والفعْلُ.وقال آخرون: هذه الآيةُ محكمةٌ غير منْسُوخةٍ، واللَّه محاسِبٌ خلقه على ما عملوه، وأضمروه، وأرادوه، ويَغْفِرُ للمؤمنين، ويأخذ به أهل الكفر والنفاق؛ ورجَّح الطبريُّ أنَّ الآية محكَمَةٌ غير منْسُوخة.* ع *: وهذا هو الصوابُ، وإِنَّما هي مخصَّصة، وذلك أنَّ قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ}: معناه: بما هو في وُسْعكم، وتحْتَ كَسْبِكُم، وذلك استصحابُ المعتقد، والفِكْر فيه، فلما كان اللفظ ممَّا يمكنُ أنْ تدخل فيه الخواطرُ، أشفَقَ الصحابةُ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم فبيَّن اللَّه تعالى لهم ما أراد بالآيةِ الأولى، وخصَّصَها، ونصَّ على حُكْمِهِ؛ أنه لا يكلِّف نفْساً إِلا وسْعَهَا، والخواطرُ ليْسَتْ هي، ولا دفعُهَا في الوُسْع، بل هي أمر غالبٌ، وليست مما يُكْسَبُ، ولا يُكْتَسَبُ، وكان في هذا البيان فَرَحُهُمْ، وكَشْفُ كربهم، وتأتي الآية محكمةً لا نَسْخَ فيها، وممَّا يدفع أمر النَّسْخ؛ أن الآية خَبَرٌ، والأخبار يدخُلُها النَّسْخُ، فإن ذهب ذاهبٌ إِلى تقرير النَّسْخِ، فإِنما يترتَّب له في الحُكْم الذي لَحِقَ الصحابة، حِينَ فزعوا من الآية، وذلك أن قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لهم: «قولُوا سَمِعْنَا وأطعنا»، يجيء منْه: الأمر بأن يبنُوا على هذا، ويلتزموه، وينتظروا لُطْفَ اللَّه في الغُفْران، فإِذا قرّر هذا الحكم، فصحيحٌ وقوعُ النَّسْخ فيه، وتشبه الآية حينئذٍ قوله تعالَى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ} [الأنفال: 65]، فهذا لفظه الخَبَرُ، ولكنَّ معناه: التزموا هذا، وابنوا عليه، واصبروا بحَسَبِهِ، ثم نسخ ذلك بَعْد ذلك، فهذه الآية في البقرة أشبهُ شَيْء بها.وقوله تعالى: {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ}، يعني: من العصاةِ، وتعلَّق قومٌ بهذه الآية ممَّن قال بجوازِ تكْليفِ ما لا يُطَاقُ، وقالوا: إِن اللَّه قد كلَّفهم أمْرَ الخواطرِ، وذلك مما لا يِطَاق، قال * ع *: وهذا غير بيِّن، وإِنما كان أمر الخواطر تأويلاً أوَّله أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولم يثبتْ تكليفاً إِلا على الوَجْه الذي ذكَرْناه من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم، إِنَّهُ على ذلك، قال الشيخ الوليُّ العارفُ باللَّه ابن أبي جَمْرَةَ: والخواطرُ عندهم ستَّةٌ يعني عند العلماءِ العارفينَ باللَّه: أولُها الهَمَّة، ثم اللَّمَّة، ثم الخَطْرة؛ وهذه الثلاثُ عندهم غَيرْ مُؤاخذٍ بها، ثم نِيَّة، ثمَّ إرادَةٌ، ثم عَزِيمَةٌ، وهذه الثلاثُ مؤَاخذ بها.اه.وقوله تعالى: {آمَنَ الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ...} الآية: سببُ هذه الآية أنَّه لما نزلَتْ: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ}، وأشفق منها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم تقرَّر الأمر على أنْ قالوا: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا»، ورجعوا إِلى التضرُّع والاِستكانةِ، مدَحَهم اللَّه تعالى، وأثنى عليهم في هذه الآيةِ، وقدَّم ذلك بين يدَيْ رِفْقِهِ بهم، فجمع لهم تعالَى التشْريفِ بالمَدْحِ، والثناءِ، ورفع المشقَّة في أمر الخواطرِ، وهذه ثمرة الطَّاعَة والانقطاعِ إِلى اللَّه تعالى، لا كما قالتْ بنو إِسرائيل: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93]؛ فأعقبهم ضدَّ ذلك، وهذه ثمرة العصيان، أعاذنا اللَّه من نِقَمِهِ.و{آمَنَ} معناه: صدَّق، والرسولُ: محمَّد صلى الله عليه وسلم، و{مَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ}: القُرآن، وسائرُ ما أوحى اللَّه إِلَيْه من جملة ذلك، وكُلُّ لفظة تصلح للإِحاطة، وهي كذلك هُنَا، والإِيمانُ باللَّه: هو التصديقُ به، أي: بوجودِهِ وصفاتِهِ، ورفْضُ كلِّ معبود سواه، والإِيمان بملائكته: هو اعتقادُهم أنهم عبادُ لِلَّهِ مكْرَمُون، لا يعصُون اللَّه ما أمرهم، ويَفْعَلُون ما يُؤْمَرون، والإِيمان بكتبه: هو التصديقُ بكلِّ ما أَنْزَلَ سبحانه على أنبيائه.وقرأ الجمهور: {لاَ نُفَرِّقُ}؛ بالنون. والمعنى: يقولون: لا نفرِّق.ومعنى هذه الآية: أن المؤمنين ليسوا كاليَهُودِ والنصارى؛ في أنَّهم يؤمنون ببَعْضٍ، ويكفرون ببعض.وقوله تعالى: {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}: مدح يقتضي الحضَّ على هذه المقالة، وأنْ يكون المؤمنُ يمتثلُها غَابِرَ الدَّهْر، والطاعةُ: قبولُ الأوامرِ، و{غُفْرَانَكَ}: مصدرٌ، والعاملُ فيه فَعْلٌ، تقديره: نَطْلُبُ أوْ نَسْأَلُ غُفْرَانَكَ.* ت *: وزاد أبو حَيَّان، قال: وجوَّز بعضُهم الرفْعَ فيه، على أنْ يكون مبتدأً، أيْ: غفرانُكَ بُغْيَتُنَا. اهـ.{وَإِلَيْكَ المصير}: إِقرار بالبعثِ، والوقوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ سبحانه، وروي أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، لما أنزلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ، قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَجَّلَ الثَّنَاءَ عَلَيْكَ، وعلى أُمَّتِكَ، فَسَلْ تُعْطَهْ، فَسَأَلَ إلى آخِرِ السُّورَةِ..تفسير الآية رقم (286): {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}وقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا...} الآية: خبرُ جزمٍ نصَّ على أنَّه لا يكلِّف اللَّه العبادَ مِنْ وقْتِ نزولِ الآيةِ عبادةً مِنْ أَعمالِ القَلْب والجوارحِ إِلاَّ وهِيَ في وُسْعِ المكلَّف، وفي مقتضى إِدراكه وبنيته، وبهذا انكشفت الكُرْبَةُ عن المسلِمِينَ في تأوُّلهم أمْر الخواطِرِ، وهذا المعنَى الذي ذكَرْناه في هذه الآية يَجْرِي مع معنى قوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185] وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدين مِنْ حَرَجٍ} [والحج: 78] وقوله: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16]، قال العراقيُّ: {وُسْعَهَا}، أي: طاقتها. اهـ.قال * ع *: واختلف النَّاسُ في جوازِ تكليفِ ما لا يُطَاقُ في الأحكامِ الَّتي هي في الدُّنْيا بعد اتفاقهم على أنَّه ليس واقعًا الآنَ في الشَّرْعِ، وأنَّ هذه الآية آذَنَتْ بعدمه، واختلف القائلُونَ بجوازِهِ، هل وَقَعَ في رسالةِ سَيِّدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم أمْ لاَ؟فقالَتْ فرقة: وقَعَ في نازلةِ أبِي لَهَبٍ؛ لأنه حَكَم علَيْه بتَبِّ اليدَيْنِ، وصَلْيِ النَّارِ؛ وذلك مُؤْذِنٌ أنه لا يؤْمِنُ، وتكليفُ الشرْعِ له الإِيمان راتب، فكأنه كُلِّف أنْ يؤمِنَ، وأنْ يكون في إيمانه أنَّه لا يؤمن؛ لأنه إِذا آمَن، فلا محالة أنْ يُدَيَّنَ بسورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}.وقالتْ فرقةٌ: لم يقَعْ قطُّ، وقوله تعالى: {سيصلى نَاراً} [المسد: 3] إِنما معناه: إِن وافى على كفره.* ع *: وما لا يطاقُ على أقسامٍ:منه المُحَالُ عقْلاً؛ كالجمْعِ بين الضِّدَّيْن، ومنْه المُحَالُ عادَةً؛ كرفع إِنسانٍ جبلاً، ومنْه ما لا يطاقُ مِنْ حيث هو مُهْلِكٌ؛ كالاِحتراقِ بالنارِ، ونحوه، ومنه ما لا يطاقُ لِلاِشتغالِ بغَيْره، وهذا إِنما يقال فيه مَا لاَ يطاقُ على تجوُّزٍ كثيرٍ.وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ}، يريدُ: من الحسناتِ، {وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت}، يريد: من السِّيِّئاتِ؛ قاله جماعة المفسِّرين؛ لا خلاف في ذلك، والخواطُر ونحوها ليس من كَسْب الإنسان، وجاءت العَبَارةُ في الحَسَنَاتِ ب {لَهَا}؛ من حيثُ هي مما يفرح الإِنسان بكسبه، ويسر المرء بها، فتضاف إِلى ملكه، وجاءَتْ في السيئة ب {عَلَيْهَا}؛ من حيث هي أوزارٌ، وأثقال، ومتحَملاَتٌ صعْبَةٌ؛ وهذا كما تقول: لي مالٌ، وعليَّ دَيْنٌ، وكرَّر فعْلَ الكَسْب، فخالف بين التصريفَيْن حسنًا لنمط الكلامِ؛ كما قال: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17] هذا وجه.* ع *: والذي يظهر لِي في هذا أنَّ الحسناتِ ممَّا يكسب دُونَ تكلُّف؛ إِذ كاسبُها على جادَّة أمر اللَّه، ورسْمِ شرعه، والسيِّئَاتُ تُكْتَسَبُ؛ ببناءِ المبالغة؛ إِذ كاسبها يتكلَّف في أمرها خَرْقَ حجابِ نَهْيِ اللَّه تعالى، ويتخطَّاه إِلَيْها، فيحسن في الآية مجيءُ التصريفَيْن لهذا المعنى.وقال المهدويُّ وغيره: معنى الآيةِ: لاَ يُؤَاخَذُ أحدٌ بذَنْبِ أحدٍ؛ قال * ع *: وهذا صحيحٌ في نفسه، لكن من غير هذه الآية.وقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا}: معناه: قُولُوا، واختلف الناسُ في معنى قوله سبحانه: {إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، فذهب كثير من العلماء إلى أَنَّ هذا الدعاءَ في النسيانِ الغالبِ، والخَطَإ غَيْر المقصودِ، وهو الصحيحُ عندي، قال قتادةُ في تفسير الآيةِ: بلغَنِي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ اللَّهِ تعالى تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَنْ نِسْيَانِهَا وَخَطَئِهَا»، وقال السُّدِّيُّ: لما نزلَتْ هذه الآية، فقالوها، قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «قَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ، يَا مُحَمَّدُ»، قال * ع *: فظاهر قولَيْهما ما صحَّحته؛ وذلك أن المؤمنين، لما كُشِفَ عنهم ما خافوه في قوله تعالى: {يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} [البقرة: 284]، أمروا بالدعاء في ذلك النوْعِ الذي لَيْسَ من طاقة الإِنسان دفْعُهُ، وذلك في النسيانِ، والخطأ، والإِصر الثقيلِ، وما لا يطاقُ على أتمِّ أنواعه، وهذه الآية على هذا القولِ تقضِي بجوازِ تكليفِ ما لا يطاقُ؛ ولذلك أمر المؤمنون بالدعاءِ في ألاَّ يقع هذا الجائزُ الصَّعْبُ. ومذهب أبي الحَسَنِ الأشعريِّ وجماعةٍ من المتكلِّمين؛ أنَّ تكليف ما لا يطاق جائزٌ عقلاً، ولا يخرم ذلك شيئاً من عقائِد الشَّرْع.وذهب الطبريُّ وغيره إِلى أنَّ تكليفَ ما لا يطاقُ غيْر جائزٍ، وأنَّ النسيان في الآية بمعنى التَّرْك أيْ: إِن تركنا شيئاً من طاعتك، والخَطَأ هو المقصودُ من العَصْيَان، والإِصْر هي العباداتُ الثقيلةُ؛ كتكاليف بني إِسرائيل، وما لا طاقة للمرءِ به هو عندهم على تجوُّز؛ كما تقولُ: لا طاقة لي على خصومة فُلاَنٍ، أو: لا طاقَةَ لَنَا به؛ من حيث هو مهلكٌ؛ كعذاب جهنَّم وغيره، ثُمَّ قال تعالى فيما أمر المؤمنين بقوله: {واعف عَنَّا}، أي: فيما واقعناه، {واغفر لَنَا}، أيْ: استر علينا ما عَلِمْتَ منا {وارحمنا}، أيْ: تَفضَّلْ مبتدئاً برَحْمَةٍ منك لَنَا، فهذه مناحٍ من الدعاء متباينةٌ، و{أَنتَ مولانا}: مدحٌ في ضمنه تقرُّب إِلَيْه، وشُكْر على نعمه، ومولى: هو من وَلِيَ، وفي الحديث: «أنَّ جبريلَ- عليه السلام- قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: قُلْ: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا فقالَهَا، فَقَالَ جِبْرِيلُ: قَدْ فَعَلَ، قَالَ: قُلْ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُهَا فَيَقُولُ جِبْرِيلُ: قَدْ فَعَلَ إلى آخِرِ السُّورةِ».وتظاهرتْ بهذا المعنى أحاديثُ، وروى أبو مسعودٍ عُقْبَةُ بن عمرٍو عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ الآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ، كَفَتَاهُ» يَعْنِي مِنْ قِيَامِ الليلِ، قال صاحب سلاح المؤمن: هذا الحديثُ رواه الجماعةُ، يعني: الستةَ، ومعنى: كَفَتَاهُ أجزتَاهُ عنْ قيامِ الليل، وقيل: كَفَتَاهُ مِنْ كلِّ شيطانٍ، فلا يقربه ليلَتَهُ، وقيل: كفتاه ما يكُونُ مِنَ الآفاتِ تلك الليلةَ، وقيل: معناه حَسْبُهُ بهما فضلاً وأجراً، ويحتمل الجميع، واللَّه أعلم. اه من سلاح المؤمن.وقال عليٌّ- رضي اللَّه عنه-: «ما أظنُّ أَحَداً عَقَلَ، وأدْرَكَ الإِسْلاَمَ يَنَامُ، حتى يَقْرَأَهُمَا» وفي الحديثِ؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «أُوتِيتُ هَؤُلاَءِ الآياتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ، مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ لَمْ يُؤْتَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي»كمل تفسير سورة البقرة، والحمد للَّه..سورة آل عمران: هذه السورة مدنية بإجماع في ما علمت.
|